Humania هيـــومـــانيـــا
تسجيل الدخول
Humania هيـــومـــانيـــا
تسجيل الدخول
Humania هيـــومـــانيـــا
Would you like to react to this message? Create an account in a few clicks or log in to continue.


Make a difference as a human, show what you got and amaze yourself and everyone!
 
HomePortalLatest imagesRegisterLog in
منتديات هيــومــانـيــــا "الهوس بالإنسانية" ترحب بكم وتدعوكم للرقي معنا بالإنسان .. أهلا وسهلا
Humania "human mania" forum welcomes and invites you to promote humanity with us .. Welcome aboard
مقدمة تشرح فكرة وأهداف منتديات هيومانيا في موضوع بقسم الاقتراحات .. تفضلوا بالتعرف إلينا
An introduction to humania, it's idea and goals are in a topic in the suggestions forum ... Feel free to get to know us
انضم معنا إلى أصدقاء هيومانيا على الفيس بوك
Latest topics
» دردشة 4
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeFri Feb 15, 2013 11:45 pm by ام اري

» هلا بالغالي
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeFri Feb 15, 2013 10:33 pm by ام اري

» لا تتسرع و اقلب الصفحة
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeMon Feb 20, 2012 7:16 am by ام اري

» ترحيب ......
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeThu Feb 16, 2012 8:44 pm by ام اري

» كوارث 2011
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeTue Jan 31, 2012 7:21 am by ام اري

»  زرعنا في تراب الحلم ... حلم ويشبه العصفور
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeTue Jan 31, 2012 7:17 am by ام اري

» اللي بعيد عن العين بعيد عن القلب
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeSun Jan 22, 2012 7:01 am by ام اري

» عشـــــــــــــــــــــــــر أوراق متساقطة
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeSun Jan 22, 2012 7:00 am by ام اري

» عيـــ مبــارك ــــــــــكم
مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeSun Jan 22, 2012 6:57 am by ام اري

Search
 
 

Display results as :
 
Rechercher Advanced Search

 

 مسعودة .. فلاح الجواهري

Go down 
4 posters
AuthorMessage
دمعة قمر

دمعة قمر


Posts : 2457
Join date : 2010-04-15

مسعودة .. فلاح الجواهري Empty
PostSubject: مسعودة .. فلاح الجواهري   مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeTue Jun 29, 2010 7:47 pm


نبذة عن الكاتب:

فلاح الجواهري * ولد عام (1899) في مدينة النجف العراقية، ذلك المركز الديني والأدبي البارز.
* تحدّر من أسرة عريقة في علوم الفقه والأدب والشعر عرفت بالجواهري نسبة لكتاب جليل اسمه (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) للمحقق "الحلّي" ألفه الشيخ "محمد حسن" أحد أعلام الفقه في عصره والمرجع الديني البارز للطائفة الشيعية في زمانه، وطار صيت الكتاب حتى عرف به مؤلفه "صاحب الجواهر" ومنها جاء اسم العائلة "آل الجواهري".

* بدأ النظم في سن مبكرة ولم يبق شئ يذكر محفوظاً وموثقاً من تلك البواكير.
* نشرت أول قصيدة له عام (1921).
* في فجر يوم الاحد 27/7/1997 رحل الشاعر العظيم، واحتضنته تربة الشام بعيداً عن "دجلة الخير".

مسعودة

السباب يهدر ويتناثر في باحة الدار وخلف الاعمدة الحديدية الاسطوانية الحمراء وفي الممرات وعبر الابواب المشرعة.. يعلو ويتصاعد ويدور صداه في دوار النور الوسيع ذو النوافذ المحزمة بقضبان حديدية و المطل على باحة الدار.. يدور مرة واخرى وثالثة ثم يعود ليتناثر كهشيم زجاج مبعثر، تتزايد حدته وصداه مع تزايد حدة الضربات على الشعر الاسود المعثكل المتلامع.
.. تهرب مسعودة.. تدور حول باحة الدار.. تحتمي وراء الاعمدة، تهرب الى عمود آخر، تتعثر وتنكفيء على وجهها ويرن صدى ارتطام وجهها بالارض، تزحف الى زاوية قريبة.. تتكور كالقنفذ وتخفي رأسها بين ركبتيها وذراعيها المعقودتين..
عندما تعجز السيدة عن اكتشاف مساحة كافية من الرأس لقبقابها تبحث كفها عن اكبر عثكولة من الشعر الكث الملطخ ببقع الدم وتملأ قبضتها منه.
يخرج رأس مسعودة من بين فخذيها ويظهر وجهها بنفسجيا قرمزيا عاتما محتقنا، بعينين جاحظتين اتسعتا واستدارتا من الفزع، وتلامع الوجه المتوزم بالمخاط والدمع والعرق.
.. يجد القبقاب الخشبي الثقيل مجاله الى ماينكشف من رأسها وينهال كالمطارق.. تتكور اكثر
.. يستمر الضرب فيصيب خلفية الرقبة المنحنية و مساحات من الذراعين و اعلى الظهر.
يهتز الجسد الاسود المربوع.. يتلوى.. يدور على نفسه.. يحاول الزحف فتنكشف مواقع اكثر منه..
.. تتزايد صرخات التوجع وولولة الاسترحام والاستنجاد:
- دخيلك عمة.. دخيل الويلاد.. دخيل السيد.. دخيلج حجية.. ابوس رجلك خاتون.. خاطر الامام.. لخاطر الحسن والحسين.. اروحلج فدوة.. التوبة والله التوبة.. عمممـ...
يعود التوسل بنفس الاسماء وغيرها وبكل ألقاب التبجيل وبنبرات مختلفة.. يختلط ويضيع احيانا بين الشتائم المنهالة مع الضرب.
لا فائدة لكل تلك الاستجارات بسلسلة الائمة والمقربين في تهدئة السيدة – العمة، الحجية، الخاتون، الباجي.. – وجه السيدة الابيض يزداد توردا واحمرارا وتوزما.. تشتد تكشيرات الغضب وكزكزة الاسنان.. الوجه المحتقن الغاضب يدور مع اليد المرفوعة بآلة التعذيب الخشبية المتهاوية بلا انقطاع
.. يستمر هدير السباب عبر الصوت الذي بدأ يبح مكررا تصميمه على " تكسير رأس مسعودة " و " تقطيعها وصلة وصلة " و " رميها للكلاب السود "..
.. تبدأ السيدة باللهاث.. تتباعد كلمات الشتائم وتطول.. تخف الضربات.. تتباطأ نوبات الضرب.. تضعف، ثم تتوقف منتهية بركلة قوية على الخاصرة.
- الف مرة خبرتك يا بنت الكلب ان تنظفي غرفة الضيوف قبل يوم الاربعاء..تريدين تخزيني كـَدام الضيوف..
تدمدم السيدة بكلمات متقطعة لاهثة وهي تبتعد عن الكتلة الشوهاء الباكية المقرفصة في الزاوية، لتلقي بنفسها على تخت خشبي وثير في باحة الدار
- كلبة، خنزيرة، قحبة، مايفيد وياك الضرب.. يراد لك حرق.. والله لصب عليج فد يوم تنكة نفط واحركـَج واخلص.
كنا نقف متصلبين كتماثيل خشبية، مبهوري الانفاس قرب الباب المفضي الى الحديقة الوسيعة فزعا من ان تنتقل زوبعة الغضب فتصيبنا من بعد مسعودة.
.. شيء مخيف التقطيع وصلة وصلة!.. الافظع منه رمينا مقطّعين الى الكلاب.. الكلاب السود!!. والحرق! تكاد تبتل سراويلنا من ذكره..
.. نحترق كوقدة نار مستعرة ونتقافز ونركض بشكل عشوائي ونصطدم بهذا العمود وذاك الجدار وتلك الباب، تماما كما حصل حينما صب محسن النفط على كلب مجذوم في بستان جارنا واشعل فيه النار..يا للهلع الذي اصابنا في حينه ونحن نتراكض مبتعدين عن الكتلة المزمجرة الملتهبة وهي تنطلق مسعورة، قافزة، نابحة، مولولة، مكزكزة، تصطدم بهذه النخلة والشجرة وبالسياج الطيني.
.. رائحة الشواء الزنخة كانت قد ملئت اطراف البستان. ملئت خياشيمنا لايام في كل وجبة طعام تلت وخصوصا حينما يكون ضمنه لحوما مشوية.
.. كنا نقف على اهبة الاستعداد للهرب محملقين بغباء بالسيدة اللاهثة من التعب، المزمجرة بكلمات لا نفقه بالتحديد معانيها، إلا انها تزيد من فزعنا وغباءنا وحملقتنا
- بنت الزنيم، خنزيرة سودة، ام الشحولة، غراب البين، الغبرة الدبرة..
كان كل واحد منا يستعيد حتى اصغر الاخطاء التي ارتكبها ذلك اليوم، بل وحتى السابقات منها والتي افلتنا من عقابها لايام مضت.. حتى التحرش الحذر بابنة بائعة الحليب في الكوخ القريب.
يتزايد اقترابنا من الباب المفضي الى الحديقة.. يعرف كل منا الاجزاء المتثلمة من سياجها الطيني.. لقد مارسنا الهروب عبرها في ايام سابقة، وكنا حين نصل الى التربة الآمنة بتخطينا
فسحة السياج المثلومة دون ان ندرك ونحن في منجى من الخطر، كيف تمكنا من هذا الاجتياز
العظيم ونحن لا نستطيع في مسابقاتنا في نفس هذه الاماكن ان نقفز نصف مثل هذا العلو.
.. صحيح ان واحد منا قد لا يسعفه الحظ في التشعبط والقفز الى البستان المجاور، فيقع تحت رحمة عصا السيد او نعل السيدة الجلدي.
.. كلاهما شديد الايلام ويبقى اثره لايام على اجسادنا..
كنا نقرفص مرتجفين في الجانب الاخر من الطوف الطيني، واكبادنا تنخلع لصيحات الالم وندائات الاسترحام وطلب المغفرة للضحية من مجموعتنا التي خانتها سيقانها في القفز في اللحظة المناسبة.
- التوبة والله بعد ماسويها.. يابوي التوبة.. يا يمه دخيلك..
نظل ننتظر بصمت انتهاء العقاب، وتملص الضحية من سجانيها بعد فترة، لتقفز وتلحق بنا في البستان المجاور..
- مايخالف، لاتبك، كافي وامسح مخطانك!..
نربت على كتف خائب الحظ منا وقد يمنحه احدنا نصف برتقالة من غنائمنا في بستان الجار..
نتراكض بعدها بقليل وكأن لم يكن هنالك رعب قد لاحقنا..نصل الى حافة الجدول القريب..
- دعني اريكم شيئا.. ياالله تعالو ورائي!
اقول ذلك بشكل فيه الكثير من الجد والغموض العجائبي، واتوجه بهم مشيرا بذراعي المدودة بفخر الى مساحة رملية صغيرة قرب الجدول مسيجة بكسرصغيرة من السعف المتيبس.
- ها هي مزرعة خرفاني، لقد زرعت عشرة عثاكيل من الصوف قصصتها من خروف البستان.. اسقيها بانتظام، مرة كل يومين..
..ايام قليلة وتنبع منها قرون خرافي الجديدة..
الكل ينظر بانبهار الى الكتل الصوفية النابعة من التربة الندية.. ثم يعيدون النظر اليّ بانتظار شيء ما..
- لقد سمعت السيد مرارا وهو يعلو بصوته " ازرع صوف! يطلع غنم! "، كان يقولها لاصحابه الزائرين.. " نعم ازرع صوف يطلع غنم! ".
لازلنا نراقب قرب نهاية المشهد بين السيدة ومسعودة، والذي كان يتكرر مع بعض التحوير البسيط في الشتائم المستعملة او ادوات العقاب..لم يكن السبب يغير كثيرا في عنف الهجوم او مدته.. احيانا لا نتوصل الى السبب المعلن، حتى حين نتحاور في تفاصيل الحدث عبر سياج البستان.
السيدة تتكيء بظهرها على مسند التخت وتمد احدى ساقيها على طولها على حين انحدرت الاخرى باسترخاء من حافة التخت ولامست الارض.. لازالت تلهث ولكن بدرجة اقل، كما واختفى توزم واحتقان وجهها.
من حين للآخر كانت تلقي نظرة على الجسد المكور والراس الذي لا يزال نصف غائر بين الفخذين، على حين تجعدت عثاكيل الشعر الخشن والتصقت ببعضها بالدماء الجافة، كجزة خروف بعد الذبح..
كلما ارتفع انين مسعودة الخافت وبكاءها الى ولولة ونحيب، زمجر السيدة وصرخت
- انخنقي واسكتي وإلا اقوم واشفي غليلي بك من جديد!
تصمت لفترة قليلة ثم يعود الانين والبكاء.
- ارموا لهذه المنحوسة أسلابها! ودعها تغور عن وجهي
تشير الينا بنصف التفاتة الى اشياء متناثرة نعرفها في وسط الباحة واطرافها..
.. فردة نعل مطاطي هنا، وآخرى هناك.. عصابة رأس مجعدة زرقاء بورود ناعمة حمراء، اسورتان زجاجيتان، احداهما قد تهشم تماما ويبدو الآخر سليما، كنا نعرف ان من ضمن هذه الاسلاب، مكنسة الخوص التي تكاد لا تفارق يد مسعودة.
.. نقف متنصتين بوجوم حذر قرب باب المطبخ للدندنة الخفيضة الناحبة التي تذكرنا بتنويمات الاطفال الرضع الحزينة في مهودهم.
من اين، متى، وكيف نبعت هذه (المسعودة) الشابة الربعة السوداء في بيت اقاربنا في الريف الجنوبي؟!
هذه الاسرار كانت عصية حتى على ابناء السيد الصغار.. لا احد يعرف، ولم يكلف احدنا نفسه مشقة السؤال وربما مخاطره.
كل ما نعرفه، اننا وجدناها مهرولة بشكل شبه دائم في باحة الدار، يلاحقها القباب الخشبي الثقيل ذاته.
لا دار دون مسعودة! مثلما لا دار دون تلك العمدان الاسطوانية الطويلة التي ترفع سقفها، المنفتح على زرقة السماء المضببة بوهج الظهيرة..هناك نرى مسعودة تماما كما نرى حين نرفع اعيننا تجاه السطح تلك الحزم الضوئية التي تعوم فيها ذرات الضباب المضيء.
من الصعب علينا استحضارها في ذاكرتنا الصغيرة، اصغر مما هي عليه عمرا، او مرتدية غير ذلك الثوب القصير بوروده البيضاء المتسخة، المنثورة على خلفية حائلة الزرقة.. نعلان مطاطيان يشدان على القدمين الضخمين تظهران من بين اصابعهما وعقبيهما آثار بائدة من الحناء.
لا نعلم متى كانت تصحو، غيرانا عند الفجرحين ننسل من اسرتنا فوق السطح نازلين بحذر اللصوص الى باحة الدار نجدها تدندن بالحان اغاني لم نسمع بها من قبل وهي منهمكة في رش البيت وكنسه.. لاتترك مسحة غبار اوقشة عالقة في اية بقعة من فسحة البيت او المطبخ قبل موعد نزول السيدة التي تجري تفتيشها الدقيق على كل زاوية.
.. عند سماعها وقع اقدام السيدة على درجات السلم تتوقف دندنة الاغاني المكتومة ويسود صمت متوتر.
ثم يأتي اعداد الخبز الطازج الحار.. اي مهمة التنور
كم كا ن يلذ لنا أن نساعدها في تقديم هذه الحزمة او تلك من العيدان او السعف اليابس عند بدا شجر التنور، بل وقد نحاول ان نعدل اطراف العجينة المفروشة كقرص مدور فوق مخدة الخبزالمغطاة بقطعة قماش مشدودة ونخفق في ذلك اغلب الاحيان..
كم كنا نصخب ضاحكين حين كانت تقفزصارخة بهلع حينما يمسك لسان اللهب المتطايرباحدى عثاكيل شعرها فتغمس على عجل يدها الملطخة بالعجين باناء الماء المجاوروتخمد عثكولة الشعرالمحترقة..
كنا اول من نذوق الخبزالحار الخارج من التنور وغالبا ما تصنع لنا منه حنونات صغيرة مدورة.
.. ثم تآتي محنتنا اليومية..
.. كانت تسحبنا الواحد تلو آلاخر فتدعك وجوهنا وايدينا واقدامنا بقوة، غير عابئة باحتجاجنا وصراخنا وخصوصا حينما نحاول جاهدين ان نفلت من غسل الشعر ودعكه تحت صنبور الماء
نخال معه انها ستقلع فروة رأسنا..
.. ندرك سبب ذلك فيما بعد حين تستعرض السيدة نظافتنا.
تنظر السيدة بحزم وامعان الى الايادي و الاقدام والرقبة والشعر والوجه، حتى ماخلف اذاننا.
بعد صينية افطار السيد والسيدة التي تحضّرتحت اشرافها في المطبخ، تحمل الينا صينية افطارنا
الى غرفة جانبية وهي تختلف باحجام صحونها ومحتوياتها عن تلك المقدمة الى رب وربة الدار..
.. مسعودة تقوم بفض النزاعات التي كانت تحصل اثناءها على حصصنا من صحن مربى السفرجل او القيمر.
.. كانت تضع مربى السفرجل الذي تبرع في اعداده في مرطبانات تصفـّها فوق رفوف عالية في المطبخ، يكاد ان يستحيل علينا الوصول اليها عند اختفاء الرقيب.
ترسلها السيدة الى السوق بقائمة طويلة من الطلبات مع توصيات كثيرة تعاد على اسماعها يوميا قبل الخروج.
- اياك وان يغشك القصاب في الوزن!.. اللحم شرحة بدون جلافيط وعروق!.. عصفورة زند..
البامية ترفة وصغيرة.. الطماطة تختاريها وحدة وحدة..
تنتهي قائمة النصائح بالتحذير الرهيب:
- الفلس اطلـّعه من غلاصيمك لو تجاسرت واخفيتيه!.. اطلعه من عيونك!.. أكسر عظامك لو تأخرت ورحت سائبة كالكلبة في الدروب!.. ومجموعة اخرى من التحذيرات المخيفة.
تعود بزنبيل الخضار واللحم وما يلفه العطار في اكياس ورقية.. تضع المشتريات فوق منصة المطبخ الخشبية بعد ان ترتبها حسب اقيامها وتقف منتظرة تفرغ السيدة وقدومها للتدقيق والحساب.
.. وتاتي ساعة الحساب وهي عسيرة!..
تزن السيدة اللحم بكفها.. تقلبه باصابع اليد الاخرى، تقربه من عينيها متفحصة.. تشم رائحته.
.. تفحص كل قطعة من الخضار، تعقبها لحظة تأمل وهزة عدم اقتناع من شكل او وزن الاصناف.. تفتح اكياس العطارة وتشم روائحها
خلال عملية التمحيص والحساب، لا ينقطع صوت السيدة المتشنج من الدمدمة المصحوبة في الغالب بالشتائم التقليدية.. الزجر الفجائي قد ينطلق في اية لحظة تقفز منه مسعودة الى الوراء واضعة كفها على جانب وجهها اتقاءا لصفعة مرتقية..
ينتهي الحساب العسير في الغالب بالسؤال اليومي المعتاد:
- كم نسيت في جيبك من بقية الحساب!
-.. والله، والنبي! لم آخذ فلسا واحدا..والله باجي!..
حين ترى ان هذا الحلفان الأولي لم تظهر منهو معالم القناعة على وجه السيدة، تكمله بحلفان اكبر
- وحق أمير المومنين.. والحسن والحسين، ما اخذت شي!..
وحين لا تزول معالم الشك من الوجه المتجهم بمواجهتها، تتصلب، ترتجف ثم تطلق حلفانها الرهيب:
- والعباس ابو راس الحار ما اخذت شي..
حتى هذا الحلفان الاكبر قد لا يؤدي الى القناعة المطمئنة، وينتهي المشهد اليومي في الغالب، بان تمتد يد السيدة الى جيوب مسعودة في بحث دقيق لا يعطي نتائج مقنعة رغم خروج اليد فارغة، وتأتي صفعة غيض الفشل من عدم اكتشاف الجرم على الخد الاسود الذي سرعان ما تبلله دموع صامتة وهي تتحرك ببطء لتقوم بتوزيع المشتريات في ادراج المطبخ او فوق رفوفه او في قدور ذات اغطية ثقيلة.
جمع البيض من بين اكوام القش في سقيفة الدجاج من مهمات الصباح ايضاً، يتبعه تقديم علف الخروف الذي اهداه فلاحون من قرية السيد الى رب الدار، وملء صحن الماء امامه.
.. لو شحّ ماء الصحن تعالى صوت السيدة:
- يارب يقصف عمرك، وتشوفين عطش جهنم، يا مجرمة، يا قاسية القلب.. تريدين تموتين الحيوان المسكين من العطش؟!
لو نفقت احدى الدجاجات فهي المسؤولة الاولى، حتى لو أكّدت لها بالايمان الغليظة أن دجاجات البستان المجاور قد نفق نصفها من وباء (ابو الضريّق).
.. غسيل الملابس، نشرها على الحبال – يسهل علينا لعبة الاستغماية خلف الستائر والافرشة المنشورة -، كيها، هندام صغار السيدة وصبغ احذيتهم قبل خروجهم.
هنالك مهمات اخرى لا نراها كاملة، كدخولها مع السيدة الى الحمام، او اعداد العصيدة السكرية الكثيفة الحارة – يحرم علينا تذوقها – تقوم بفرشها على قطع طويلة من القماش ثم تضعها على صينية تنقلها الى غرفة نوم السيدة وتحكم غلق رتاجها وراءها..
.. قد تسبق طقوس استحمام السيدة وما بعده همسات في اذن مسعودة قبل ان ترسلها الى الجارة ام لطيف.. يدور الهمس مع التأكد من عدم وجودنا على مقربة للتنصت.. تعود باكياس صغيرة من مساحيق بيضاء.
اخطر المهمات التي غالبا ما تؤدي الى انفجار غضب السيدة وتكرارمشهد معركة القبقاب وأخيرا انشغال مسعودة في وضع عطباتها الصوفية فوق جروح فروة الرأس في عتمة المطبخ هي تنظيف واعداد غرفة الضيوف يوم الاربعاء.
.. الاربعاء هو يوم (القبول)!.
.. حل المساء وبدء (قبول) السيدة.. نرقب عن كثب ونتهامس ضاحكين معلقين على الضيوف
.. تتكرر الوجوه ذاتها كل اربعاء وتتبدل الازياء والعطورالتي اخذنا نميز صاحباتها من خلاله، كما تتبدل رنات كعوب الاحذية وخشخشات الحلي الذهبية..
هذا يومنا في الاستمتاع بسرقات خاطفة من صحون مربى السفرجل وحفنات من المكسرات والحلوى المرصوفة فوق منصة المطبخ، قبل ان تقوم بنقلها مسعودة الى الضيوف.
.. ليالي الاربعاء هي فرصتنا في ساحات المعارك التي تدور في نسمات المساء الندية فوق أسرة السطح والتضارب بالوسائد، والاختباء عن اعين الاعداء المهاجمين في غرفة الأفرشة بين الحشيات والالحفة.
حين يصيبنا الانهاك ننزل للتنصت الحذر قرب باب غرفة الضيوف..
-.. وطلقها بالثلاث.. أي والله بالثلاث، ورماها الى اهلها رمية الكلاب.. " المسكينة المكـَرودة
.. إجاها الخط المصخم للبيت بعد ثلث تيام "
- والفروخ الصغار المساكين وين بقو
- ضلوا وياه، ويه أمه.. عمت عينها شلون بيبيه عجوز الشوم، هسه راح ترويهم الضيم.
.. استمرت تفاصيل طلاق فتحية والنقاش الحار حول مصيرها لمدة غير قصيرة علت فيها اصوات، وشتمت اصوات اخرى، وتصاعدت ادعية الى الله والائمة " بقصف رقبة اللي كان السبب"..
ثم انتقل الحديث بالهمس اولا عن علاقة بنت ام احمد المريبة بابن الحاكم..
- يكـَولون بـَيوُمـّهْ! صـَخـّمها!
، تلتها تفاصيل بصوت هامس مع تتمات لها من أخريات، عن تسلل (الداية) الى دارهم في الليل لمرات عديدة، ثم اختفاء بنت أم أحمد الى جهة مجهولة.
-.. خاف سوولها شي، المسكينة؟!
- لا هذولي مو مال كـَتل وذبح..
- ياهو اللي يسأل، يكَـَولون راحت عند خالتها بالبصرة.
.. ثم يلي ذلك كما في معظم الجلسات حديث الذهب والصياغة وسعر المثقال، وحجول نعيمة الجديدة، واقراط أم هاشم الثقيلة.
في صيف آخر وفي زيارة جديدة للبقاء في دار السيدة فترة من العطلة المدرسية، لاحظتُ وصحبي من الصغار في البيت تغيرا ملحوظا ومسرا غلى سلوك مسعودة وهندامها، بل ومحاولتها تنفيذ ادق ما تطلبه السيدة بصبرو بابتسامة رجاء واستعطاف:
- امرك باجي!.. من عيني هاي وعيني هاي!.. شما تؤمرين سيدتي!.. اروحلك فدوة سامحيني على غلطتي الصغيرة!.. انا خدامتك وعبدتك وما اريد إلا رضاك!..
الى غير ذلك من الاستعطافات التي قللت بالفعل من هياج السيدة وتباعدت معها مهرجانات القبقاب الدامية.
.. زاد سماعنا لصوتها وهي تدندن في خلواتها في المطبخ او وراء التنور خصوصا عند غياب السيدة عن البيت، باغاني جديدة كنا قد ألفنا سماعها من الراديو في برامج الصباح.. كانت تختلف تماما عن تلك الترنيمات الحزينة التي كانت ترددها في الايام الفائتة والتي كنا لانفقه معظم مفرداتها.
.. اصبحت اقاصيصها لنا حين مرافقتنا الى اسرتنا في الليل، تنتهي في الغالب بنهايات سعيدة كالعثور على الكنز المخبأ،أوعودة الحق الى اصحابه، او زواج الابنة التي كانت تحبسها زوجة الاب في التنور حين يأتي خطابها الى الدار بعد أن يصيح الديك " عي عي عيعو، عي عي عيعيو..الموحلوه بره والحلوه بالتنور.. الحلوه بالتنور! "
زارت أم سالم السيدة تصاحبها امرأتان من معارفها..
.. ركضت مسعودة باضطراب كبيرالى المطبخ.
.. دار حديث علا فيه صوت السيدة وتوزم وجهها.
.. لان الصوت قليلا واعتدل بعد رجاءات أم سالم ومن معها.
.. علا من جديد مع تهديد شديد:
- لتصطبر! والله لاكسر رقبتها.. الـ...، الـ..
عادت الرجاءات ونهضت احداهن وقبلت رأس السيدة.
- ينوبك ثواب.. هي خدامتك عمر طويل!، وما يروح بيها المعروف..
تهدأ السيدة.. وبعد نوبات اخرى من الاستعطافات.. تبتسم على مضض
- هذي بس لخاطر ها الزيارة، ولخاطر ام سالم..
ثم اضافت بصوت اكثر جدية:
- اعطونا انا والسيد مهلة نفكر.. سنخبركم بعدها متى يمكن ان يحضروا.. و إذا كانت هنالك قسمة!.. انشاء الله يصير خير.
كنا نخمن ونتهامس بيننا بأن هنالك شيء ما جديد يدور في الخفاء حول مسعودة واخذنا نسترق السمع الى احاديث الليل الخافتة التي تدور على السرير العريض ذو الكلة الكبيرة المسدلة قبل ان يتحول الحديث الهامس الى حسحسات وصرير للسرير المهتز وأنات واصوات غريبة غامضة
قد يعقبها بكاء قصير تتبعه كركرة ضحكات مكتومة.
في تلك الايام المميزة بتبدل طبيعة انفجارات غضب السيدة الذي أخذ مجرى مغايرا بعض الشيء لسابقاته.
نفس اشارة البدء بالصرخة الصاعقة التي تشل لا مسعودة وحدها بل حتى نحن الهاربين كالعادة الى البوابة المفضية الى البستان.. نفس الجري والمطاردة والزوغان من القبقاب الخشبي الثقيل..
نفس الهيئة القنفذية المتكورة وراء احد الاعمدة..نفس تعابير الاسترحام والترجي ثم انات الالم والتوجع.. فقط هنالك تبدل طرأ على شدة الضرب الذي خف وتباطء مع نهاية اسرع للمهرجان الصاخب واقل دموية، فلا عطبات كبيرة تزين فروة الرأس بعدها.
.. اضيفت بعض العبارات الجديدة ما بين الشتائم
- أم الرجال!.. أم المواعيد في الدروب!.. عرس! عرس!؟ ها عرس!؟.. كله من وراي يا قحـ..،
اخيرا عرفنا الخبر المفهوم عند الصباح أن " مسعودة راح تعرّس "، وأن هنالك من هو قادم هذا المساء حول قضية " العرس ".
.. هزجنا في البستان ودرنا حولها وسحبناها من اطراف ثوبها وهي تستعد للوقوف وراء التنور:
- مسعودة راح تعرّس هيه هيه! مسعودة! مسعودة.. مسعودة راح تعرس هيه هيه! مسعودة!
كانت تكركرجذلى وهي تبتعد بمرح عن قفزاتنا الصاخبة الرعناء ووجهها يتحول وراء لفح لهب التنور الى احتقان ضاحك بنفسجي قرمزي داكن.
اليوم تدور مسعودة لاول مرة في زوايا البيت وبين المطبخ وغرفة الضيوف بمهماتها ببدلة نظيفة وبحذاء جلدي وشعرها قد خفت عثكلته ورتب وبرزت من وراء غابته البنفسجية الغامقة السوداء المتلامعة جديلتان صغيرتان عقدت في شرائط قصيرة حمراء.
اعفيت من مهماتها الثقيلة في المساء وكانت شتائم الصباح محدودة جدا اقتصرت على فترة تقديم الافطار، وكان السيد قد انهاها باشارة تنبيه الى السيدة بعينيه..
.. ما كان من السيدة إلا ان ردت التأنيب بقفشة عاجلة حين علقت على تأكيده على ذهابه الى حمام السوق امس استعدادا لاستقبال الضيوف القادمين:
- لقد قلتُ لكِ انني ذهبت الى حمام السوق امس!
نظرت السيدة اليه بسخرية واشارت الى كعبي قدميه المسودتين:
- يبدو انك قد نسيت أمس ان تأخذ قدميك معك الى الحمام.
اثار ضحكنا العفوي الصاخب وابتسامة مسعودة الخفية المكتومة ثم هروبها الى المطبخ غضب السيد الصامت الذي غادر صينية الافطار والدار على عجل.
بعد المغرب بقليل احسسنا من التحركات السريعة في الدار أن الموعد قد اقترب.
اشتد تناوب مسعودة بين المطبخ وغرفة الضيوف وباحة البيت.
كانت تعابير وجهها مشوشة قلقة.. تتجمد للحظة وتضيع نظراتها الساهمة في جهة بعيدة خفية، ثم يفتر ثغرها عن اسنان مرصوصة يتلامع بياضها في عتمة الوجه المبتسم.
.. تصطدم بنا في حركتها الساهية..
.. نصطدم بها عن عمد متضاحكين.
.. نسيت مسعودة، أم تعمدت النسيان حين قدمت لنا برتقالة ثانية بدلا من الواحدة المقررة لكل منا يوميا.
.. نسيت كذلك مرطبان مربى السفرجل على منضدة المطبخ..
.. اتينا على نصف ما فيه.
اعقب طرق الباب الخارجي عند المغرب، هروب مسعودة المتعثر الى المطبخ.
كان الرجال اول الداخلين وتوجه السيد بهم الى غرفة الضيوف.
.. كان معظم الرجال القادمين بعباءات جز انيقة وغتر مرقشة وعقالات تختلف بغلظها.
تلا ذلك بدقائق حضور النساء وتقدمتهم السيدة الى التخوت المرصوفة في باحة الدار.
تسمعنا من موقعنا المتنصت في ممر البيت قرب باب غرفة الضيوف الى كلمات الترحاب والسؤال عن الصحة والاحوال وعن سير الاعمال في بستان السيد وبساتين بعض الضيوف ومهن الآخرين، وعن مشقات الزمان الصعب وغدر الزمان المتقلب.
.. ساد صمت مفاجيء في الغرفة، اعقبته نحنحات وسعلات خفيفة.
- نتوكل على الله يا جماعة وخلي الشيخ ابو نزار هو اللي يتكلم بلسان الجميع ويدخل بالموضوع.
قطع الصمت صوت خشن، تبعته اصوات مرحة تؤكد الاقتراح،وكلمات على خيرة الله، وتوكلوا بالله، ودعاء للسيد رب الدار بعمران داره ودوام عزه.
في جبهة الرجال تلك، كل مقدمات االحديث و " الدخول بالموضوع " وتعقيبات رب الدار وردوده كانت تجري باصوات هادئة متزنة تتخللها رنات مرحة وادعية بالخير.
اما على جبهة السيدة فقد كان الموقف مغايرا لذلك..
.. السيدة ورغم اصرار السيد ورجاءاته ابت إلا أن تستقبل النسوة القادمات بملابسها البيتية الاعتيادية.
.. ترحابها كان مصبوغا بلهجة رسمية صارمة ومتحفظة.
.. المقدمة في حديث النسوة عن الاطفال وتربيتهم وشؤون البيت الصعبة التي لا تنتهي، وعن مواسم زيارات الائمة المعصومين وعن عودة الحاجة أم علوان من بيت الله، كانت تقابل بصمت السيدة او بكلمات قصيرة مبتورة يقف لغط الحديث فيه عند الضيفات وينقطع لبرهة ليعود ويتحول الى موضوع آخر على أمل بث الدفء في الموقف الصعب.
تنحنحة احد السيدات المسنات:
- عليك يا أمير المومنين وبصاية آل البيت وخلي الحاجة أم علوان تبتدي حديث الخير..
وتحدثت الحاجة أم علوان، وقوطعت بكلمات السيدة المتشنجة، وتدخلت الجارة أم سالم باستعطاف، وعاد ت أم علوان متلعثمة في عبارات صاغتها بشكل آخر.. لحظات وعلا صوت السيدة بغضب.. الجارة أم سالم تقوم وتقبل رأسها ويعود الحديث ويصخب بمداخلات بقية النسوة وبرجاءاتهن..
ثم تزايد الضجيج وامتزجت الاصوات والسعلات وأفافات السيدة وادعية الخير وأسماء الائمة..
انقطع الحديث حين وصلت نحنحة السيد من الممرواستئذانه من النسوة لكلمة على حدة مع السيدة.
.. دار الحديث بين رب وربة الدار في ممر البيت وعلى مقربة منا همسا، وكانت فيه رجاءات منه وتطمينات، وحين كان صوت السيدة يبدء في العلو، كانت توسلات السيد تزداد..
وعادت السيدة الى مكتنها بين النسوة في باحة الدار وسمعنا اصوات مرحة من غرفة الضيوف اعقبتها عبارات
- على بركة الله، على خيرة الله، الله يتمم بخير، ثم صوت ابو نزار الخشن الجهوري:
- خلي ايدك بأيدي سيدنا و خلينا نقرأ الفاتحة سيدنا.
على الجبهة النسوية بدأت احدى السيدات بالزغردة التي لم تطل بعد أن اشارت السيدة اليها بخشونة بالتوقف.
علمنا في تنصتنا الليلي من حديث تحت الكله فوق السطح، ان العريس المنتظر هو علوان.
.. نعم علوان.. علوان الاسود نفسه، عامل مضخة السقي الضخم في البستان المجاور والذي لم نره إلا ملطخا بالسخام والدهون.
.. رغم ذلك المظهر الهائل المتطاول كجذوع النخيل، فقد كنا على كامل الود والتفاهم معه، فابتسامته وتلويحة يده لنا من بعيد، كانت تمهد لنا سبيل الاقتراب منه ومن (خنزيرة) الماكنة، ذلك الحوض الاسمنتي الواسع الفوار بالماء الدافق من انبوب المضخة الضخم، كان يتآمر معنا على السماح بالقفز والخوض في الخنزيرة، شرط أن لا تكون ملابسنا مبلولة عند الرجوع الى الدار تحسبا ً لعقاب السيدة لنا ولما يجره عليه لسانها من شتائم وتهديد.
كنا قد لمحناه مساء ذلك اليوم بين مجموعة الرجال الذين قدموا الى السيد في غرفة الضيوف..
كان مظهره مختلفا تماما.. مارد اسمر بصاية انيقة وعباءة جز طويلة مقصـّبة ولفاع رأس رمادي فاقع مرقط وحذاء لماع ووجه رصين جاد.
مرت ايام وكانت فرحتنا نحن الصغار لا حدود لها إذ دعانا احد اقرباء السيد لعرس ولده في قرية غير بعيدة.. عرس، وحلوى والعاب صاخبة مع اولاد القريب الصغار في غياب رقابة الاهل المنشغلين بالعرس والمدعويين.. تشعبط على الاشجار المثمرة، وسباحة في جدول البستان، ومبارزات بأعواد جريد النخل، واقاصيص عن الجن والطناطل تحت وشوشة سعف النخيل في الليل.
غادرنا الى القرية وبقيت مسعودة في البيت كالمعتاد في مثل هذه الغيابات.
كانت معظم ما حلمنا به قد تحقق في أيامنا تلك في بستان اهل العريس، و تركنا قسم من انجاز بقايا احلامنا لايام تليها، حينما نصحو مبكرين والكل نيام لاوقات متأخرة بعد فوضى الاعراس الليلية. غير أن إصرار السيدة على العودة المبكرة بعد ايام قليلة من تواجدنا اضاع الكثير علينا.

وصلنا عائدين عند المساء وكانت مسعودة بفرحة لقاءها المعهود لنا عند عتبة الباب وسارعت لنقل الامتعة والسلال من سيارة الاجرة الى داخل الدار.
كان الشاي والبسكويت والخبز الحار ومربى السفرجل في انتظارنا.
هرعنا الى السطح نستقبل انسام الليل وبدأنا قفزنا المعهود فوق الاسرة والفرش الندية الباردة التي كانت تغري بالاستلقاء فوقها وتبادل حكايا الجن والطناطل والاشباح، التي كانت تدور بين الكلل الشفافة المتماوجة مع هبات النسيم في حلكة الليل.
في صبيحة اليوم التالي، وفي وقت غير مألوف لمواعيد نوبات غضب السيدة، صحونا خائفين مذعورين على صرخات استنجاد واسترحام ومناشدة باسماء الاولياء والائمة والابناء والسيد المحفوظ طويل العمر.
كانت المطاردة من اطول ماشاهدناه، والضرب هو الاعنف والاقسى..
لم يكن من الطريدة المرعوبة المنكوثة الشعر المبحلقة الاحداق الصارخة بفزع إلا ان تقفز هذه المرة الى غرفة المؤونة في المطبخ وأن تحكـّم بابها الثقيل خلفها. وكأن في حركتها الدفاعية تلك الفرصة التي كانت السيدة بانتظارها، فما كان منها إلا ان تضع القفل الضخم المعلق في رتاجها الخارجي وتحكم اغلاقه وتطلق زعقتها الغاضبة
- من ها الحبس يا مصخمة الوجه، الى حبس الشرطة!
تم استدعاء السيد من اطراف البستان وهدد بالصوت الغاضب المزمجربأن يتصرف وفق ما تمليه خطورة الجريمة.
بدء السيد رجاءاته برقة حينا وبعلو صوت حينا آخر، ثم في احتجاج مستسلم محزون:
" والفضيحة؟! ".. " والناس..!؟ ".. " والجيران..!؟ "
.. السيدة تلقى باغلظ حلفانها بأن ستقوم " بالتصرف مع الشرطة " بنفسها لو اقتضى الامر.

لم نجد في نهار ذلك اليوم اية متعة حقيقية في الاشجار التي كنا نتسلقها، او مطاردة الوز والدجاج، او بتشعبط طوف البستان المجاور، او لم الكمري المتناثر بين جذوع النخيل، او حتي بالتعري والقفز في الجدول القريب.. لم نجد اية نشوة حقيقية، كان هنالك طعم مر لخيبة امل لا نعرف مصدرها بالتحديد.
كان الفضول يجتذبنا من حين لآخر كي نعود من البستان لنقف بخشية وصمت عند مدخل الدار برهة قبل أن نتوجه بوجل وحياء محزون الى السيد بأسئلة متلعثمة..
كانت اسئلتنا المتعاقبة ونحن نقف الى جواره وامامه، تعجز عن كسر صمته..
.. كان يضع رأسه المتهدل بين راحتي كفيه صامتا بسهوم.
حين نرى أن لا أمل في اي جواب، نتحرك وجلين لنقترب من مجلس السيدة المتوتر فوق التخت، لنكرر بعض تساؤلاتنا بصوت مرتجف حذر..
.. يجبرنا صوتها الزاجر المرتفع الى الهروب والتشاغل باللعب لفترة قصيرة في البستان لنعود للدخول خلسة الى المطبخ والتنصت من وراء باب غرفة المؤنة المقفل الى نحيب مسعودة وترنيماتها المنغمة الحزينة.
عند المساء طـُـرق الباب واستقبل السيد معاون الشرطة الذي دخل محيياً بملابس خدمته العسكرية الانيقة المكوية جيدا، يتبعه شرطي ذو ملبس خشن فضفاض اكثر عتمة وهو يتأبط دفترا ضخما.
كان الشرطي يكثر من ترديد كلمة " سيدي " لمعاون الشرطة الذي كان يملي عليه بأنفة وبرأس مرفوع عبارات معقدة، يعاود بعدها الالتفاف الى السيد في حديث هامس قبل أن يملي من جديد..
.. الشرطي يكتب ببطء كبير مستعيدا الكلمة والاخرى.
" علوان عامل المضخة.. "، ".. حارس الليل في المنطقة.. ".. ".. جارتنا أم عادل "، " كنا في اعراس اصدقاء لنا.."، ".. في اوقات في الليل "، " غرفة الضيوف مضاءة في غيابنا.."، هذه بعض من العبارات التي تمكنت أذاننا من فهمها والتقاطها في تنصتنا من على مبعدة.
.. السيدة كانت تجلس على مقربة متشاغلة، غير انها كانت تتدخل مقاطعة احيانا:
- عليكم اتخاذ الاجراء اللازم، وإلا ارفع الامر الى جهات اعلى.
.. لا تنفع محاولات السيد ايقاف امثال هذه المداخلات.
في صباح اليوم التالي كنا نجلس مقرفصين بحزن في احدى الزوايا نتابع المسيرة المفجعة..
.. السيد يتوجه الى الممر المؤدي الى مدخل الدار.. مسعودة تكاد تتهاوى في مشيتها المترنحة امامه، معالم ذهول وقنوط وخواء على وجهها الذي بدى ذاويا.. العينان داميتا الاحمرار.. الجفنان منتفخان.. الانف متورم.. الوجنتان ملطختان ببقع من المخاط والملح والدمع والغبار المتيبس.
السيد طوال هذه المسيرة الشاقة عبر ممر البيت كان جدار حماية لمسعودة من اندفاعات السيدة خلفه وهي تحاول ان تصل بيديها الى رأس مسعودة، وحين يقف السيد حائلا دون الامساك بها ينطلق لسان السيدة بالعديد من مسميات الشتائم وادعية اللعنة على الفتاة المغادرة امامه.
رغم كل محاولات السيد المستميتة في أن تخرج بأمان، فقد تعقبها القباب الخشبي الثقيل ليصيب منتصف ظهرها، لتصرخ متوجعة قبل أن تمرق على عجل من الباب المفتوح الى ضياء الطريق المغبش بوهج الظهيرة والاتربة العالقة.
- الى صقر يا زانية.. هاكِ اسلابك!
كانت هي الصرخة الاخيرة التي انطلقت مع الصرة الخضراء الى أتربة الشارع.

عند المساء تعالى صوت السيد باحتجاج وحزن فور عودته الى البيت:
- إرتحت ِ الآن.. لقد اقتادوا علوان الى الموقف؟!

تمضي الايام ونعود الى تسلقنا الصاخب لاشجار التوت وزرع الصوف في المزرعة الصغيرة، ونبش اطينة الجداول بحثا عن ديدان وردية زلقة.


* * *
نلتف مع الوالدة والاخوات الكبار وجارتنا أم فاضل حول منقلة لفحم متوهج، ينتصب فوقها مسند خشبي، ينسرح فوقه و من على حواشيه ملحف صوفي ليغطي الركب والسيقان والايدي المخبأة اتقاءًً لبرد الشتاء القارس.. هو ما يطلق عليه الكبار جلسة (كرسي الشتاء).
مواضيع الاحاديث التي يتناقلها الكبار دارت عن الجارة عمة سنية، وحمامجي الزقاق المجاور وعلاقاته المريبة بزنوبة المخشلة باسورة وحجول الذهب، وطلاق المنحوسة أم سعيد من ابوسعيد..
كانت رائحة قشور النارنج المحترقة تمتزج بعبق الكستناء وهي تشوى في المنقلة التي نلتف حولها.
.. قالت الوالدة وهي تنبش جمر المنقلة بالملقط المعدني الكبير
- هل تدرين يا أم صباح بخبر مسعودة في النجف وهي في بيت صفية خان.. لقد سكبت صفيحة نفط كاملة فوقها واشعلت في نفسها النيران؟!
تغامز الكبار فيما بينهم اشارة الى تواجدي بينهم وانقطع الحديث.

اغفى جميع من في الغرفة معي.
كلما هممت باغماض عيني في محاولة للاغفاء، ظهرت امامي صورة الكلب الاجرب المحترق في البستان وهويركض عاويا برعب دون وجهة محددة، ليصطدم بهذا الجذع او ذاك او ليركض حاكا جسده الملتهب بسياج البستان الطيني.. يعود فيتجه في احدى اندفاعاته صوبنا فنتقافز هلعين متشتتين.. يستمر اللهب المتوهج في التقافز الاهوج ويستمر الانين في الظلمة.. ارى الحدقتين المتوسعتين بالرعب واسمع كزكزة الاسنان المكشرة البارزة البيضاء للجسد المشوه بالكتل المتفحمة والاجزاء المتسلخة الحمراء التي تنز بسائل وردي صديدي.
.. تفوح في الغرفة رائحة شواء عفن زنخ.
Back to top Go down
ام اري

ام اري


Posts : 7344
Join date : 2010-04-27
Age : 72

مسعودة .. فلاح الجواهري Empty
PostSubject: Re: مسعودة .. فلاح الجواهري   مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeWed Jun 30, 2010 9:16 pm

شكرا يا غاليه عالقصه الجميله
تسلمين
ونهارك سكر
Back to top Go down
Marvy

Marvy


Posts : 8631
Join date : 2010-04-15
Age : 38

مسعودة .. فلاح الجواهري Empty
PostSubject: Re: مسعودة .. فلاح الجواهري   مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeSun Jul 25, 2010 6:44 am



مسعودة .. فلاح الجواهري 1I435905



شكرا ع القصه يا غالية


ليلتك لافندر

تحياتي
Marvy

Back to top Go down
ام اري

ام اري


Posts : 7344
Join date : 2010-04-27
Age : 72

مسعودة .. فلاح الجواهري Empty
PostSubject: Re: مسعودة .. فلاح الجواهري   مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeMon Jul 26, 2010 11:01 pm

Marvy wrote:


مسعودة .. فلاح الجواهري 1I435905



شكرا ع القصه يا غالية


ليلتك لافندر

تحياتي
Marvy


شكرا عالمرور يا حبي
نهارك فل
Back to top Go down
AL_Sahed

AL_Sahed


Posts : 3022
Join date : 2010-05-03

مسعودة .. فلاح الجواهري Empty
PostSubject: Re: مسعودة .. فلاح الجواهري   مسعودة .. فلاح الجواهري I_icon_minitimeWed Jul 28, 2010 9:28 pm

الله اكبر


شكرا الك على القصة


تحياتي
Back to top Go down
 
مسعودة .. فلاح الجواهري
Back to top 
Page 1 of 1
 Similar topics
-
» قصيدة الجواهري لصدام عندما اسقط عنه الجنسية العراقية

Permissions in this forum:You cannot reply to topics in this forum
Humania هيـــومـــانيـــا :: Literature and language .. أدب و لغة :: Stories .. قصص-
Jump to: