--------------------------------------------------------------------------------
كيف أرد جميلها
بقلم : عصام ابو فرحه
أجلس إلى جوارها كل يوم , أرقب حركاتها الجميلة , أمتع ناظري بجميل ألوانها , كم من المتعة والسعادة تعطني تلك السمكة الصغيرة التي جلبتها معي من السوق قبل بضعة أسابيع , وكم أتمنى لو أنني أستطيع رد جميلها , ولكن هيهات هيهات , فهذا الوعاء الصغير الذي تسكنه والذي يكبل حريتها ويحد من حركتها , كان حجر عثرة في وجه سعادتها , أشعر بذلك وأدركه رغم محاولتها إخفاء تعاستها , فيا لهذا النبل ما أعظمه ويا لهذا الوفاء ما أبدعه , فهاهي تكفكف دموعها كلما اقتربت منها , وتطلق لرشاقتها العنان , فتنطلق بانسيابية رائعة لترسم بألوانها الزاهية لوحات فائقة الجمال على صفحات ما يحويه هذا الوعاء الصغير من الماء , وكلما أحست بسعادتي وإعجابي زادت من سرعة حركاتها غير مكترثة بارتطامها المتكرر في زجاج الحوض الصغير ,
يا إلهي كيف أكافئها وكيف أرد لها الجميل ؟ سؤال يداهمني كلما استمتعت بجلسة إلى جانب حوضها الصغير , لكن لا جواب ولا سبيل , إلا بعض حبيبات من طعامها ألقي بها فوق صفحة الماء , فتصعد لالتهامها قانعة شاكرة , وأحياناً كنت أخفف عن نفسي وأنكر أنانيتي فأقول : لعلها تنشد بتلك الحركات متعتها وليس إمتاعي , فيأتي النفي سريعاً بمجرد أن أبتعد عن مجال بصرها , وسرعان ما تستقر في قعر الإناء منهكة , فيعود إلي السؤال : كيف أكافئها وكيف أرد لها الجميل ؟
خطرت ببالي بعض الحلول لكنها اصطدمت بالكثير من الحسابات والعراقيل , فحوض أكثر اتساعاً من هذا قد يشعرها بالسعادة , لكنه سيأخذ حيزاً أكبر من غرفة الجلوس الصغيرة أصلاً , أو لربما جلب شريك لها أو شريكة قد يؤنس وحدتها , لكن الحوض لا يكاد يتسع لها وحدها فكيف سيغدو مع وجود الشريك ؟ حلول ظلت دون تنفيذ وظلت الحيرة سيدة الموقف .
اليوم زالت حيرتي فقدت وجدت الحل المناسب وسأرد لها الجميل , نعم سأسعدها كما هي دوماً تسعدني , نظرت إلى نافورة الماء المتوضعة في فناء البيت , فسرحت معها ببصري وفكري , وكأنني أراها للمرة الأولى , حوض ماء كبير مرصع بحجارة قديمة أخذت شكل ولون مجاري المياه الطبيعية أو الأنهار أو ربما أعماق البحار , ومن الأعلى تنهمر المياه بمنظر خلاب يحاكي تدفق المياه من الشلالات , فيكتمل بهاء اللوحة مع أصوات المياه المنصبة في الحوض ,
عدت من شرودي وقد أحسست بسعادة غامرة , يا إلهي كيف لم يخطر ذلك ببالي من قبل ؟ هذا هو بيت السمكة المناسب , كل هذا الوقت وأنا أزج بها في ذلك الإناء الزجاجي الضيق ؟ , كل هذا الوقت وأنا أبحث عن طريقة لأرد لها الجميل ؟ وأمام عيني هذه النافورة ؟؟ أقسم لو أنها خيرت بين بحر وبين هذه النافورة لاختارتها ,
حملت السمكة في حوضها الصغير واتجهت حيث نافورة الماء , ظلت ساكنة تنظر إلي وكأنها ترقب المجهول , فما اعتادت أن أحملها , قلت لها مبتسماً : الحق معك , فمنذ صحبتنا لم أقم بنقلك من مكانك , أخرج وأعود بحريتي وتبقين أنت بالانتظار , آتيك كلما شعرت بالضجر , لأجدك تجودين بكل ما عندك لإسعادي , اليوم أنا من سيسعدك , فلقد انتهى عهد هذا الإناء الضيق بما يحويه من الماء القليل , سآخذك إلى البحر , هو ليس بحراً , ربما هو نهر , أو ربما يشبه النهر , لا أدري , هل تفهمين ما أقول ؟ لا تتعجلي , أقسم أنك ستحسين بالسعادة , لا تتعجلي .
بسعادة غامرة وضعت السمكة في الحوض الكبير وجلست أرقبها , كانت حركاتها تحدث بشكل جلي عن استغراب واضطراب , لكن الأمر لم يطل , وسرعان ما أدركت أنها الآن في عالمها , جالت مسرعة في الحوض وكأنها تستكشف معالمه , هبطت , صعدت , اتجهت يميناً ثم استدارت , لعقت بعض الحجارة , سبحت على صفحة الماء , اقتربت مني , نظرت إلي , ثم انطلقت في حركات رشيقة ساحرة لم أرها من قبل , قلت لنفسي : تلك هي حركاتها الفطرية التي تصنعها لتسعد نفسها لا لتسعدني , ابتعدت قليلا عن الحوض فاستمرت ولم تتوقف كما كانت تفعل في حوضها الزجاجي الضيق , يا لسعادتها ويا لسعادتي ,
لم أستطع أن أغادر المكان , فجلست القرفصاء إلى جوار النافورة , وقد تابعت السمكة حركاتها الرشيقة بين هبوط وصعود , هبوط وصعود , هبوط و........ ,,,,
لم تصعد السمكة هذه المرة , انتظرت , وانتظرت , وقفت , انحنيت , أمعنت النظر , اقتربت من الماء أكثر , لا وجود للسمكة في الحوض , أين هي ؟ أين اختفت وليس هناك أي منفذ ؟
ارتعشت وضربت جبهتي بقبضة يدي حين خطرت ببالي كلمة منفذ , نعم فهنالك منفذ واحد لا غير , هو ذلك الأنبوب المتصل بالمضخة التي تسحب الماء إلى أعلى النافورة ليصب في الحوض من جديد , شخصت ببصري إلى الأعلى حيث المصب , وانتظرت , لكن انتظاري لم يطل , فقد بدأت الأشلاء الملونة بالسقوط من الأعلى لتنتشر فوق صفحة الماء , ولتغطي الحوض بألوان زاهية جميلة لكن دون حياة .
( انتهت )