تسمم الحمل.. مشكلة قاتلة تؤرق الأطباء قبل المرضى
مسبباته لا تزال تحير العلماء
تمثل مقدمات تسمم الحمل (الارتعاج) Pre - eclampsia أحد أكبر المخاوف بالنسبة للمرضى والأطباء على حد سواء، نظرا لما قد تمثله من خطورة إذا تحولت إلى الصورة الكاملة لتسمم الحمل Eclampsia على المريضة أو جنينها، في ما قد يصل إلى حد الوفاة. وقدرت منظمة الصحة العالمية بأن أكثر من 63 ألف سيدة حامل معرضة للوفاة سنويا جراء الإصابة بتسمم الحمل ومقدماته.
ويصاب بأعراض مقدمات تسمم الحمل نحو 10 في المائة من السيدات الحوامل، بينهن واحدة من كل 200 معرضة للتطور إلى تسمم الحمل وتشنجاته.
وعلى الرغم من عدم دقة التسمية من الناحية العلمية، حيث إنه لا يوجد تسمم بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أن الأعراض التي تشمل التشنجات العضلية العصبية والفشل الوظيفي للأعضاء، التي تصاحب تسمم الحمل هي التي جعلت التسمية تجري على الألسنة. في حين أن الشطر الثاني من الاسم يحمل دقة هائلة، إذ ترتبط الحالة ارتباطا وثيقا بالحمل، أو بما يفسره الجسم على أنه حمل، كما في حالات الحمل العنقودي على سبيل المثال.
وتبدأ الإصابة بتلك الأعراض غالبا بعد الأسبوع الثاني والثلاثين للحمل (بداية الشهر الثامن)، وإن كانت بعض الحالات المبكرة تبدأ مع الأسبوع العشرين، وهي الأخطر. وتنتهي الأعراض بانتهاء الحمل نفسه، سواء عن طريق الولادة (القيصرية غالبا) أو الإجهاض التلقائي أو الطبي المقنن أخلاقيا وقانونيا في مثل هذه الحالات نظرا للخطورة الشديدة الواقعة على الأم. وقد تمتد الأعراض إلى ستة أسابيع بعد انتهاء الحمل، ولذا يجب متابعة المريضة بدقة حتى انتهاء فترة الخطورة.
* أعراض أساسية
* والأعراض الأساسية لمقدمات تسمم الحمل هي ارتفاع ضغط الدم أكثر من 140/90 ملم زئبق (في قياسين منفصلين بينهما ما لا يقل عن 4 ساعات)، مع ارتفاع كمية الزلال «الألبومين Albumin» في البول (لأكثر من 300 مليغرام في البول المجمع على مدار 24 ساعة)، إضافة إلى تورم أجزاء مختلفة من الجسم (وخاصة الأطراف السفلية، والمقعدة، واليدين، وربما الوجه). وفي حالة التطور إلى صورة التسمم الكاملة، فإن التشنجات العضلية قد يصاحبها فقدان للوعي وقد يتطور الأمر ليصل إلى الفشل الوظيفي لأعضاء مهمة كالكلى والكبد والقلب، مما قد يؤدي إلى وفاة المريضة.
ومن الأمور المهمة قبل استباق التشخيص بالإصابة بمقدمات تسمم الحمل، أن يتيقن الطبيب من أن هذه الأعراض ليست ناتجة عن أمراض أخرى مثل ارتفاع ضغط الدم الأولي المزمن (غير المرتبط بالحمل) أو بأمراض الكلى المزمنة، حيث إن علاج حالات مقدمات التسمم يعتمد بالأساس على انتهاء فترة الحمل، كما سبق وأشرنا، على خلاف الحالات الأخرى التي يعتمد علاجها على علاج السبب المباشر للمرض.
ولكل تلك الأسباب أصبح لزاما على العلماء بذل جهد مضاعف في إيجاد علاج لتلك الحالات ومحاولة ابتكار أساليب جديدة لتيسير تشخيص الحالات القابلة لحدوث هذه الحالة المرضية، بل والبحث عن المسببات غير المعلومة يقينا لهذا المرض.
* دراسة جديدة
* وفي سبيل ذلك، تطل علينا بين الحين والآخر أبحاث علمية تحاول سبر ألغاز هذا المرض. ومنها ما صدر في الأسبوع الأول من شهر أبريل (نيسان) الحالي ونشر بدورية نيو إنغلاند الطبية نافيا نتائج بحث سبق نشره في نهاية العام الماضي، أكدت على أن تناول جرعات عالية من فيتاميني «سي» C و«إي» E تقي من الإصابة بمقدمات تسمم الحمل.
إذ أثبتت الدراسات التي أجريت بجامعة بيتسبرغ الأميركية على بيانات طبية خاصة بنحو 10 آلاف سيدة أميركية، تم متابعة حالاتهن ابتداء من الأسبوع السادس عشر للحمل وحتى انتهاء فترة النفاس، أن هذا الأمر عار تماما من الصحة، وأنه لا توجد علاقة بين تناول الفيتامينات وبين تقليص فرص الإصابة بتسمم الحمل.
وأكد البروفسور جيمس روبرتس، أستاذ أمراض النساء والتوليد المشرف على الدراسة، أنه قد تم إعطاء السيدات جرعات مضاعفة (10 أضعاف النسب الطبيعية) من الفيتامينات أثناء حملهن، وتمت مقارنة النتائج مع نتائج نساء أخريات لا يتعاطين مثل تلك العقاقير، فثبت بالدليل القاطع أن الجرعات العالية من الفيتامينات لا تحمي من الإصابة.
* تشخيص المرض
* وفي ذات السياق، تمكنت مجموعة من علماء جامعة ييل الأميركية بقيادة البروفسورة إيرينا بوهيمشي، أستاذة النساء والتوليد بالجامعة، من تصنيع أداة رخيصة وسريعة لتشخيص الإصابة بالمرض عن طريق قطرات من بول المريضة.
وحسب البحث الذي عرض أمام المؤتمر السنوي لجمعية صحة الأم والجنين الذي عقد بولاية شيكاغو الأميركية في فبراير (شباط) الماضي، فإن اختبار «بقعة الكونغو الحمراء» Congo Red Dot Test الذي تمكنت مجموعة الباحثين من تصنيعه، قد أعطى نتائج فورية ودقيقة في تشخيص حالات الإصابة بمقدمات تسمم الحمل عن طريق قطرات البول، حيث تتفاعل المادة الرئيسية بالاختبار مع بروتين معين يوجد في بول المريضة ليعلن عن إصابتها من عدمه. وقد تخطت النتائج الناجحة حاجز الـ90% من عدد الحالات المصابة التي تم تشخيصها عبر وسائل تقنية معقدة وباهظة التكاليف.
ومن بين الحالات المشخصة بالاختبار، حالات أفلتت من التشخيص عبر الفحص الإكلينيكي وتحليل تجلط الزلال بالبول البسيط الذي يتم إجراؤه أثناء متابعة الحمل الدورية العادية، والذي يتم عن طريق تعريض عينة البول الموضوعة في أنبوب اختبار للهب، فيتجلط الزلال في حال وجوده.
وتؤكد البروفسورة بوهيمشي على أن هذا الاختبار نجح في لفت نظر الأطباء إلى حالات كانت لتتفاقم في حال عدم إجرائه، وبالتالي أنقذ حياة الكثير من النساء اللاتي تلقين العلاج المناسب دونما تأخير.
* أسباب المرض الحقيقية
* ورغم عدم الاتفاق العلمي على مسببات مرض تسمم الحمل، فإن العلماء لا يتوقفون عن محاولاتهم البحثية للكشف عن الأسباب الحقيقية المؤدية للمرض، ومن ضمن أهم ما صدر خلال العام المنصرم في ذلك السياق، ما أوردته دورية علم الغدد الصماء Endocrinology المرموقة في عدد سبتمبر (أيلول) الماضي عن بحث قامت به مجموعة من علماء جامعة ويك فورست Wake Forest بولاية نورث كارولينا، ومولته الهيئة الوطنية الأميركية للصحة، أفاد بأن السبب يكمن في خلل بنظام التحكم في ضغط الدم الذي يقوده نظام هرموني يعرف بمنظومة الرنين - أنجيوتنسين Renin - Angiotensin System.
وتؤكد البروفسورة بريدجيت بروسنيهان، أستاذة أبحاث ضغط الدم المشرفة على البحث، أن هذه المنظومة في حدود عملها الطبيعي تحافظ على انقباض الشعيرات والشرايين الدموية من أجل المحافظة على الضغط الطبيعي، بينما في السيدات الحوامل، تنخفض نسب هذه الهرمونات قليلا حتى تسمح بتدفق مزيد من الدم عبر شعيرات المشيمة إلى الجنين. إلا أنه، في الحالات المصابة بمقدمات تسمم الحمل، تظل النسب ثابتة، مما يؤدي إلى ارتفاع الضغط ونزول الزلال بالبول، وحين ينتهي الحمل، وتعود احتياجات الجسم إلى سابق عهدها، تصبح هذه النسب طبيعية تماما مرة أخرى.
ويزيد من سوء الأمور ما اكتشفه الفريق البحثي من افتقاد الرحم، لدى السيدات المعرضات لهذا المرض، للمستقبلات الطبيعية الحساسة لنسب الأنجيوتنسين، ما يمنع الدائرة العصبية من خفض إنتاج الهرمون، وبالتالي يظل الضغط مرتفعا، وقد لا يستجيب أحيانا للعلاجات التحفظية الدوائية.
ورغم أن هذا الاكتشاف لم يساعد في تحريك الوضع قيد أنملة، حيث إن العقاقير التي تثبط عمل منظومة الرينين - أنجيوتنسين، والتي يتعاطاها الكثيرون، محظورة تماما في أثناء الحمل لما لها من تأثيرات سلبية شديدة الخطورة على الجنين، فإن تحديد المسببات للأمراض يعد خطوة لا بأس بها في طريق العلاج، وعلى الباحثين إيجاد عقاقير أخرى لا تؤثر على حالة الجنين من أجل معالجة المرضى.
وفي ذات السياق، أوردت دورية علوم الخصوبة Reproductive Sciences نتائج بحث قام به علماء جامعة ليدز البريطانية في أغسطس (آب) الماضي، تضمن اكتشاف وجود مادة «إرجوثايونين» بنسب عالية جدا في دماء المصابات بالمرض مقارنة بالأخريات من غير المصابات.
وتشير الكيميائية جولي فيشير، المشرفة على البحث، إلى أن هذه المادة تنتجها بعض الميكروبات التي توجد بوفرة في منتجات الألبان غير المبسترة. ورغم عدم قدرة البحث على تفسير كيفية دخول هذه المادة أو تصنيعها داخل أجسام هؤلاء النسوة، فإن الاكتشاف في حد ذاته وضع تفسيرا جديدا لارتفاع ضغط الدم، حيث إنه من المعلوم أن مشتقات مادة «الإرجوت» ترفع من ضغط الدم عن طريق قبض الأوعية الدموية بصورة شديدة، كما تشير النتائج إلى وجود ثمة رابط بين الأطعمة بصورة عامة وبين حدوث المرض لدى من لديهن القابلية لحدوثه <